مفاتيح كنيسة القيامة:
مقدمة
في فجر يوم من أيام فصل الشتاء، الغرفة دائفة والفتى طاهر يغط في نوم عميق هادئ، وفي الخارج تُصفِّرُ الرياح الباردة وتكنس شوارع القدس القديمة الضيّقة أزقتها، والمطر ينهمر مدراراً يغسل قباب الجوامع ومآذنها وقباب كنائسها وجرسياتها، وفجأة تهبط يدٌ على كتف طاهر تلمسه بحنان ورفق، وصوت يهمس قم يا بني فالساعة قد أشرفت على الرابعة، يتململ الفتى في فراشه الدافئ محاولاً استعادة ما انقطع من أحلام سعيدة، إلا أنه ما يلبث أن يسمع صوت ابن عمه يأتيه من الشارع يحثه على الإسراع، فيبتسم ويستوي في فراشه ثم ينهض ويلُف جسده بعباءة سميكة صُنعت من صوف الجمال، ويُلقي بوشاح حول عنقه، ويتناول الفانوس من يد والدته ويخرج ويفتح شمسيته وينضم إلى ابن عمه يسيران تحت المطر ويقطعان زقاقاً وينعطفان إلى زقاق آخر حتى يصلا إلى عتبة منزل من منازل القدس النائمة، ويخرج من عتمتها شبح شاب يحمل فانوساً وينضم إليهما بعد تبادل التحيات، وبعد مسيرة قصيرة يصل الثلاثة إلى باحة كنيسة القيامة وتمتد يد الشاب واسمه أديب إلى ثنايا عباءته ويخرج مفتاحاً بحجم الكف تقريباً، ويتناوله الفتى طاهر، ويتجه الثلاثة نحو باب الكنيسة الضخم، حيث يستقبلهم الكاهن المناوب، ويتقدم طاهر بالمفتاح ويضعه في القفل ثم يشترك الجميع في دفع البوابة الضخمة لفتحها، وتمتد يد طاهر مرة ثانية ولكن إلى الحلقة المعدنية التي تتوسط دفة الباب ويقرع بها، فيُدوّي في المكان الهادئ صوت الطرقات، أما الكاهن (الخوري) فيدلف إلى داخل الكنيسة ويتجه نحو زاوية يجذب حبلاً متدلياً من سقف الكنيسة "فيُسمع في مكان ما من البناء الضخم صوت جرس، وفي زاوية أخرى يجذب الكاهن حبلاً آخر فيتردد صوت جرس آخر في مكان آخر ويتنقل من جرس إلى جرس حتى تعلم جميع الطوائف أن باب الكنيسة قد فُتح، ثم يعود الفتيان الثلاثة إلى بيوتهم يلفهم دفء الشتاء مرة أخرى ويصمت الحاج طاهر فترة ثم يقول: كان هذا يحدث أيام الشباب، أما الآن وقد أصبحت أباً وجداً وحاجاً، فقد تسلم فتح باب كنيسة القيامة من هم أوفر مني شباباً ونشاطاً من شباب العائلة، كانت أيام جميلة، أما اليوم فقد أثقلت الأمراض همتي وولى عهد الشباب. لا المطر ولا الثلج ولا الصقيع كان يُقعدنا عن المهمة الموكولة إلينا وإلى آبائنا وأجدادنا من قبلنا، كنا نتناوب أنا وأبناء عمي على النهوض باكراً والسير إلى كنيسة القيامة ونعود أحياناً فور انتهاء المهمة، وأحياناً نجلس على المصطبة المخصصة لنا عند عتبة الكنيسة من الداخل، نتسامر ويشعل (الكهنة والرهبان) لنا مواقد النار ويأتون إلينا بالشراب الساخن والطعام فنمضي الوقت هكذا حتى بزوغ الفجر.
كنا نفتح الباب في الرابعة كي يتمكن الحجاج المبكرون من الزيارة، ونعود في السابعة كي نغلقه، كما كنا نغلقه ما بين الساعة الحادية عشرة والنصف والثانية عشرة والنصف ظهراً. كان أمر أمانة المفاتيح والسهر على الكنيسة وسلامتها مهمة يعتز بها أفراد العائلة. لقد كانت واجباً له أهميته، أما الآن فقد أصبحت "شرفاً رمزياً".
كيف جاءت هذه المهمة إلى المسلمين:
عندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب القدس فاتحاً، قدم له البطريرك سفرونيوس مفاتيح كنيسة القيامة، كي تصبح الأماكن المقدسة أمانة في عنق المسلمين، وبحث الخليفة عن رجل يأتمنه فوجد عبد الله بن نسيبة المازنية الخزرجية، خير من يقوم بهذه المهمة، وتوارثت العائلة مهمة الحفاظ على الأمانة حتى احتلت الجيوش الصليبية مدينة القدس سنة 1099 ميلادية، وخرجت العائلة (ممن تبقى من رجالها) مع من خرج، وكان منتهى المطاف قرية بورين (قضاء نابلس) حيث يوجد الآن قبر جدنا الأمير برهان الدين بن غانم المعروف بابن نسيبة الخزرجي.
وفي عام 1187 تمكن البطل صلاح الدين من قهر جيوش الصليبيين، وعدنا مع من عاد بقيادة صلاح الدين حيث أعاد المهمة إلى أجدادنا وكان في هذه المرّة لا يرمي إلى المحافظة على المدينة المقدسة، بل كان يخشى تسلل الجنود الصليبيين بثياب الكهنة فيحاولون استرداد المدينة المقدسة.
العهد العثماني:
لمس الأتراك أيام الحكم العثماني ضرورة تعزيز المحافظة على الكنيسة نظراً للنزاع الذي كان ينشب بين الطوائف المسيحية بخصوص ملكية المكان وما يحتويه، ومن ناحية أخرى تنظيم العائدات التي كان الأتراك يجنونها من الضرائب المفروضة على الحجاج والتي كانت تدفع عند باب القيامة وتحوّل في النهاية إلى وقف "خاسكي سلطان" كي تنفق على المحتاجين من المسلمين، لذلك أشرك الأتراك عائلات أخرى في القيام بالمهمة فاسندت مهمة المحافظة على الأمن إلى ضباط من عائلة جودة، بينما أُنيطت مهمة جمع الضرائب إلى عائلة "مصطفى آغا" المعروفة حالياً بعائلة "درويش"، وذلك بموجب فرمانات محفوظة حتى الآن لدى العائلتين، وقد وصلت البراءة إلى عائلة جودة عن طريق جدة لها من عائلة "غصين الحسيني"، وبإلغاء الضريبة المفروضة انتهى أمر وظيفة أمين الصندوق، وبقي أبناء جودة يحافظون على المفتاح، ويُسلموه لنا عند فتح الباب يومياً ولهم ثلث إيراد باب القيامة وآل نسيبة لهم الثلثان وتتساند العائلتان منذ ذلك الحين على الحفاظ على الباب مع أن المركز أصبح صورياً. هذا وأُبطلت الضريبة عندما خسرت تركيا الحرب في القرن التاسع عشر، وكانت قيمة رمزية تجبى من الزائر الأجنبي، أما اليوم فتحول الأمر إلى شبه موازنة سنوية تُغطيها الطوائف الممثلة في كنيسة القيامة وتوزع على أفراد العائلتين بنسبة ثلثين وثلث.
شرفية ختم القبر:
يقول أنور نسيبة الوزير السابق والمحافظ السابق لمدينة القدس وأحد محاميها المعروفين: "القصص المتوارثة أن عائلة نسيبة أتى أجدادها مع الجيش الإسلامي العربي من الجزيرة العربية عند فتح القدس، وأثناء الحروب الصليبية نزح من بقي من رجالها إلى لواء نابلس وأقامت في قرية بورين ويوجد الآن قبر زعيمها الأمير برهان الدين بن غانم المعروف بابن نسيبة الخزرجي سنة 556 هجرية.
ومهمة المحافظة على كنيسة القيامة كانت متوارثة قبل عهد الفرمانات، وقد اطلع المحامي والمؤرخ المرحوم عمر الصالح البرغوثي على بعض الوثائق القديمة التي كانت لدى عمي المرحوم سليم نسيبة قبل أن تأتي عليها النيران.
وكان لعائلتنا مكانة مرموقة بين رجال الدين المسيحي، ولا زلنا نحتفظ حتى الآن على شرفية ختم باب قبر المسيح في سبت النور من كل عام، وقد تعرضنا للملاحقة في عهد المماليك ونفي جدنا إلى مصر كما اضطهدت العائلة وشُردت في عهد إبراهيم باشا وهذا يفسر قلة عدد أفراد العائلة الآن.
ماذا يقول المؤرخون في الأسر الإسلامية التي توارثت أمانة مفتاح كنيسة القيامة والباب والجباية:
يقول المؤرخ عمر الصالح البرغوثي، وهو صاحب مؤلفات كثيرة منها تاريخ فلسطين والوزير اليازوري (وهو نائب ووزير سابق ومحامي) يؤكد البرغوثي رواية الحاج طاهر نسيبة ويُضيف:
أيام الفتح الأولى اختلفت الطوائف المسيحية فيما بينها، واحتكمت لدى عمر بن الخطاب، ولما كان عمر يتميز بصدقه وعدله، سأل المسيحيين من يُرشحون لتسلم مفاتيح كنيسة القيامة ومسؤولية صيانتها، قالوا بل اختر من قومك: فاختار عائلة نسيبة وهي من قبيلة خزرج اليمنية، وهي من أقدم وربما أقدم عائلات القدس، إلا أنها نزحت إلى قرية بورين في قضاء نابلس واستوطنت هناك حتى معركة حطين، ودخل صلاح الدين القدس واستفسر عمن كان مؤتمناً على المفاتيح؟ فقيل له آل نسيبة، فأعادها إليهم واشرك عائلتين أخريين في المهمة.
الجزية أصبحت رمزية:
يقول عارف العارف في كتابه إلى قصة الضريبة المفروضة على الحجاج والتي كانت تجمعها العائلات الأمينة على المفاتيح يقول:
هذه الضريبة تُسمى ضريبة "المحفر" أو "الكفارة" فُرضت في زمن السلطان العثماني سليمان القانوني وهي: أربعة عشر قرشاً عن الحاج الأجنبي الأوروبي، وسبعة قروش عن الحاج اليوناني، وخمسة قروش عن الحاج الأرمني، وثلاثة قروش عن القبطي، وقد استُثني من هذه الضريبة رجال الدين والأحباش.
كانت هذه الضرائب تجمعها في أسبوع الآلام هيئة مؤلفه من: نائب متصرف عكا المسؤول عن الأوقاف، ومتسلّم القدس، ورئيس الجباة وبعض الأعيان، ثم أُلغيت بأمر رسمي من إبراهيم باشا سنة 1834م.
أما هذه الأيام فإن الأمناء على باب كنيسة القيامة من آل نسيبة وآل جودة يتقاضون بنسبة الثلثين لآل نسيبة والثلث لآل جودة مكافآت مختلفة منها ما يسمونه "الفتحة" ومنها "الدخلة" وتؤخذ في الأعياد وهي أربعون قرشاً عن كل طائفة ومنها "الدِيّة" تجبى في سبت النور وتتراوح بين 30، 50 و70 جنيهاً.